عبد الحليم حافظ...الوتر المتفرد الذي رحل قبل أن يبوح باسم حبيبته
ستة أعوام مرّت على وفاة عبد الحليم حافظ في ذلك اليوم, كنا طلاباً في نهاية الثانوية عندما أعلن صوت العرب أن أغنية «قصيدة» جديدة من أغنيات عبد الحليم ستبث الليلة بعد ان تم الإفراج عن تسجيلها, وهي التي لم تغنّ على المسرح, وبقينا ساهرين حتى ساعة متأخرة, ونحن نترقب تلك القصيدة, وبين ساعة وأخرى يعلنون عنها, حتى كانت الساعة الثانية ليلاً, فبدأت الموسيقا ليخرج صوت عبد الحليم هادئاً عذباً:
الرفاق حائرون
يتساءلون
يتهامسون
في جنون
حبيبتي أنا من تكون؟
وفي اليوم التالي كانت كل الإذاعات العربية تذيع هذه الأغنية, وأشرطة الكاسيت تحقق أعلى مبيعات لأغنية أطلقت بعد وفاة مطربها بست سنوات, وأطرف ما كان يقوله الناس: عبد الحليم يغني في قبره فيقطع رزق المطربين الأحياء!.
الأجواء المحيطة
لم يكن عبد الحليم حافظ نبتاً شيطانياً كما يحلو لمحبيه أن يقدموه, وذلك في معرض الحديث عنه بكونه معجزة في الغناء, ويمثل انقلاباً حقيقياً في الأغنية العربية! لكنه كان ابن بيئته وعصره بكل ما حوى من تقلبات, فالذي نشهده اليوم من غناء وفن هو ابن بيئته, ولاذنب للمطربين والمطربات فيه, فكيف بنا أمام انقلابات سياسية وحياتية أن نطلب من الغناء أن يحافظ على سوية واحدة؟ وهو إن فعلها كان ميتاً ولا قيمة له.. وعبد الحليم الذي برز اسمه مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين ولد مع الأفكار القومية, والثورات الفكرية والاجتماعية التي بدأت باجتياح المجتمعات العربية.
والثورة دم وحركة وتغيير, فكيف بنا نتخيل أن الغناء يمكن أن يبقى على حاله؟! فمن كان يذهب للجلوس في مجلس الملك فاروق لساعات طويلة يسمع القرآن ويسمع أم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهما لم يعد قادراً على الجلوس, فالأيام –مع احتفاظها بعدد ساعات نهارها وليلها- بدأت تتحرك بسرعة مذهلة.
عبد الحليم جاء إذاً مع الفكر القومي الثوري, الذي أراد تغيير كل شيء سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً, ومن البدهي أن يحمل أبناء هذا الجيل فكراً مختلفاً وخطاباً مغايراً للسائد.
الثمن المدفوع
مع أننا لسنا من الذين يتحدثون عن بدايات عبد الحليم كما لو أنه قلب الموازين كلها, وقوبل باستهجان شديد, إلا أننا ندرك صعوبة بروز المدرسة التي يمثلها عبد الحليم أو يمثل طليعتها والتي ضمت فيمن ضمت محرم فؤاد, ماهر العطار, نجاة, فايزة أحمد, وردة وسواهم من المطربين الذين هيمنوا على الساحة الفنية, إضافة للأسماء التي لم تأخذ نصيباً بعيداً عن الأغنية الوطنية مثل فايدة كامل, والأسماء العربية التي أسهمت في ذلك الوقت بقسط وافر من الحركة الفنية الانقلابية مثل نجاح سلام. فعبد الحليم كان أمام أسياد الساحة الغنائية الذين لا يستطيع أحد مجابهتهم أو الوقوف إلى جانبهم مثل عبد الوهاب وعبد الغني السيد وأم كلثوم, فهؤلاء أحدثوا تغييراً في الأغنية العربية, ولم يخرج الناس من إسارهم وهيمنتهم, وهل بإمكان يا مواعدني بكرة, وصافيني مرة أن تقف أمام روائع القصبجي ورياض السنباطي وعبد الوهاب؟!
كان الثمن الذي دفعه عبد الحليم من أعصابه وفنه وإيمانه بنفسه كبيراً للغاية, وعانى ما عانى حتى استطاع أن يثبت للناس عموماً أن الغناء ليس محصوراً فيما يقدمه أسياد ذلك الوقت في الغناء, وساعده على إظهار ذلك ولادته المتزامنة مع الثورة, وبقي عبد الحليم يفاخر بأنه المطرب الذي لم يغنّ للملك, وإنما بدأ مع الثورة ولها وبها, ومن هنا جاءت قصائده: يا عديم الاشتراكية –السد العالي, وكل روائع صلاح جاهين مقنعة أكثر من أغنيات الذين وقفوا قبل ذلك أمام الملك وغنوا أمامه, بل إن عبد الحليم هو وحده الذي تحول إلى وسيلة إعلام للثورة, حتى الشعاراتية منها مثل عديم الاشتراكية التي وصفت منذ انطلاقتها بأنها شعار أيديولوجي وغير لائق بتاريخ عبد الحليم الفني, وفيها يقول:
يا عديم الاشتركية منطبلك كده هو
يا عديم الاشتركية منزمرلك كده هو
والمقصود هنا الملك فاروق, وبالطبع لا يمكن أن نحكم على هذه الأغنية إلا بظروفها, فكاتبها قمة في اليسارية والظرف التي قدمت فيه يحتاج إلى شيء من الشعاراتية, ولكن عبد الحليم أعلى من هذا الكلام المسف الذي كان من الممكن أن يقدم بطريقة أخرى.
مكاسب الوقت
لا يختلف ناقدان منصفان على أن عبد الحليم يملك صوتاً متواضعاً في طبقاته, فكيف لمثل هذا الصوت أن يصمد أمام عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش؟ إن الذكاء الذي وهبه عبد الحليم جعله قادراً على اقتناص الفرص, فهو عمد إلى الأغنية الفكرة التي تحمل قصة وتقدم شيئاً عذباً وخفيفاً مثل صافيني مرة في البداية, والتي تعتمد على المشاعر والأحاسيس أكثر من اعتمادها على الصوت القوي, واقتنص التهاب الأكف والناس مع الثورة, فغنى للثورة أروع أناشيدها, ورأى العمال والفلاحين يثورون على واقعهم, فرأيناه في واحد من أجمل الفيديو كليبات «السد العالي» يحمل المعول وهو يغني للعامل والفلاح والثورة, وهكذا استطاع عبد الحليم أن يسيطر على العقول والقلوب معاً.
عوامل النجاح
لا يستطيع أحد أن يجمع عوامل نجاح عبد الحليم حافظ في جانب واحد, واستعراض مسيرته الغنائية يظهر أن عبد الحليم استعمل عوامل كثيرة في نجاحه, ولم يكن ليحقق ما حققه لولاها متضافرة مجتمعة:
1- اعتماد أصدقائه من الجيل الجديد: لم يتسول عبد الحليم رعاية من أحد, ولم يطلب لحناً من المطربين الكبار وإنما أراد أن ينشأ بشكل مختلف, فبدأ مع الزملاء سواء أكانوا من الملحنين أو الكتاب, وفي هذا ضرب من الذكاء, لأنهم سيقدمون له الجديد, وسيصوغون أنفسهم حسب صوته, ولن يجعلوه مسخاً للأصوات السابقة, فكانت مجموعته مكونة منه ومن أحمد فؤاد حسن ومحمد الموجي ومرسي جميل عزيز وتوسعت الدائرة لتشمل كمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد حمزة وغيرهم. وكل هؤلاء لم يكن أحد يسمع باسمهم قبل عبد الحليم, وفي الأغاني ذات الطابع الخاص قدّم عبد الحليم روائع صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي. هذا الاختيار جعل الجيل الجديد يتقدم معاً دون استناد إلى أي اسم قديم ومعروف, وهذا ليس موقفاً, بل سياسة موفقة من عبد الحليم, لأنه في مرحلة لاحقة تعاون مع سابقيه لكن من موقع الندية والقوة وليس من موقع الاستجداء.
2-العمل بروح فريق العمل: لم ينسب عبد الحليم عمله يوماً إلى ذاته وحدها, وقد يكون من القلائل الذين لابد لهم عند صعودهم المسرح من التعريف بالأغنية وكاتبها وملحنها والفرقة الموسيقية, وأشهر أعضاء الفرقة التي وقفت عمرها على الغناء معه, وروح الفريق جعلت كل من حوله يعمل بتفان لا مثيل له, دون ادخار أي جهد أو وقت, لأنه يرى نجاحه أمامه, ويرى شهرته تسبق شهرة عبد الحليم, فكيف لا يقدم لعبد الحليم الأقوى والأفضل.. وتذكر بعض الوثائق أن بليغ حمدي عندما لحن «حاول تفتكرني» حصل سوء تفاهم, لأن اللحن لم يعجب عبد الحليم تماماً, فقام عبد الحليم بإعادة صياغة اللحن وهو موسيقي قبل أن يكون مطرباً, ومع ذلك فاجأ الجميع في الحفل بأنه نسب لحن القصيدة الرائعة لبليغ, ولم يشر إلى أنه أسهم في تلحينها.
3-الاختيار المناسب والمغاير للكلمة والجملة اللحنية وهو بذلك أضاف إلى الغناء العربي أشياء كثيرة لم تكن موجودة قبله, وإن كانت موجودة, فإنها لم تكن بهذه الصفة والظهور, وهو الذي غنى قصيدة بعيدة الغور لإيليا أبو ماضي لست أدري, وغنى قصيدة اشكالية لكامل الشناوي لست قلبي, والتي أثارت ضده إشكالات لا حصر لها, والقصيدتان لحنهما له الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد أن التقيا على صناعة الأغنية وصناعة السينما.
عبد الحليم والقصيدة
لم تكن القصيدة في مسيرة عبد الحليم طارئة, ففي بدايته غنى القصيدة, ومع أنه قوبل باستهجان إلا أنه استمر, وغنى في الشعر الفصيح لا تكذبي, لست قلبي لكامل الشناوي, وغنى للأمير عبد الله الفيصل سمراء, ويامالكاً قلبي, وغنى أجمل قصائد نزار قباني رسالة من تحت الماء وقارئة الفنجان, ولخالد الفيصل آخر قصائده المغناة حبيبتي أنا من تكون.
وفي القصائد التي غناها عبد الحليم كان محلقاً, ولعله من القلائل الذين استطاعوا أن يغنوا القصيدة الفصيحة بروح الأغنية الشعبية, وجعلها تحقق شرائح من المستمعين لم تكن تعير اهتماماً للقصيدة الفصحى وغنائها, وحواراته مع نزار قباني المسجلة تلفزيونياً, أو أحاديث نزار عن آلية تعاطي عبد الحليم مع الكلمة والقصيدة إشارات مهمة إلى ملكة الذوق التي يحملها عبد الحليم, والتي جعلته قادراً ومحلقاً في أداء أصعب القصائد بأسلس أداء وألحان.
عبد الحليم والسينما
جرّب أغلب مطربي الساحة العربية التمثيل من أم كلثوم إلى عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم ومحرم فؤاد إلى علي الحجار وغيرهم, ولكن عبد الحليم باعتراف النقاد والمخرجين ومنهم المخرج الكبير حسين كمال الذي أخرج له أبي فوق الشجرة كان مطرباً وممثلاً, فهو ممثل قادر على تقديم وجبة تمثيلية عالية, ومن هنا جاءت فكرة عبد الحليم في تقديم فيلم «تائه ما بين السماء والأرض» الذي لم يتم إنجازه والذي كان سيقدمه دون أي أغنية فيه..تتميز سينما عبد الحليم بالجرعة التمثيلية العالية, إذ استطاع أن يجاري عمالقة التمثيل ويبزهم مثل عمر الشريف وأحمد رمزي وفاتن حمامة ونادية لطفي, مما شكل إضافة تمثيلية للسينما العربية ولا تزال أفلام عبد الحليم تعرض من حكاية حب إلى لحن الوفاء إلى معبودة الجماهير وأبي فوق الشجرة.
وأجمل ما في أفلام عبد الحليم الأغنيات الموظفة ذات المستوى العالي, والتي يخشى من وجودها عادة في الأفلام, إلا أن عبد الحليم أضافها وشكلت إضافة في أفلامه, وإضافة أهم في مسيرته الغنائية مثل لست أدري, وحياة قلبي وأفراحه, قوللي حاجة.. ومن منا ينسى رائعته مشيت على الأشواك التي صورها في فيلم أبي فوق الشجرة, والتي تمثل فيديو كليب حكائياً قصصياً راقي المستوى مع الشاطئ ورمله وشجراته الصغيرة.
عبد الحليم وجيله
أغلب معاصري عبد الحليم وعارفيه يتحدثون عن ذكائه المميز, وتسخير هذا الذكاء لفنه, ولكنهم لم يفصلوا في ذلك, فعبد الحليم بعد أن حجز لنفسه
موقعاً متقدماً في الغناء لم يشأ أن يبقى وحيداً, ولم يدفعه
حب الأنا إلى اغتيال مواهب الآخرين, بل سعى بكل ما أوتي لتكريس جيل من المطربين والمطربات يستطيع هذا الجيل أن يغير في البيئة الغنائية العربية, ويتجلى ذلك في تعاونه مع نجاة وفايزة أحمد ووردة, ومن ينظر إلى أغنياتهم وكتابها وملحنيها يجد أن القاسم المشترك واحد بين هؤلاء المطربين فالكتاب مشتركون والملحنون مشتركون, وهذا الذي جعل الاتجاه الغنائي في حقبة الخمسينيات والستينيات مختلفاً نوعاً ما عن الغناء فيما قبل, وأكبر دليل على الاختلاف أن عبد الحليم عندما تعاون مع عبد الوهاب جاء بعبد الوهاب إلى المدرسة الغنائية الجديدة لتغتني بتجربته, ولم يذهب إلى عبد الوهاب لتقليد مدرسته العريقة.
أهم ميزات عبد الحليم
ذكر النقاد أن طبقة عبد الحليم الصوتية دون غيره, ومع ذلك استطاع عبد الحليم أن يكون في القمة وأن يحافظ عليها بعد ثلاثين عاماً من رحيله, والسبب الأساسي أن عبد الحليم يعرف طاقاته الصوتية, ولم يشأ أن يخرج على هذه الحدود, بل استعان برهافة حس بالكلمة والجملة اللحنية التي لم تعرف من قبل فجعل الأغنية جزءاً منه, وجعل من صوته جملة لحنية في أي أغنية أداها, وسيمر وقت طويل على الناس وهم يتأملون عبد الحليم الذي استخرج قلبه ليضعه على طرف لسانه وهو يؤدي أغنيات شاء لها الخلود أن تبقى على الرغم من كل شيء.